بقلم: د. رفيق حبيب
أُقيمت دولة الاحتلال الصهيوني في قلب المنطقة العربية والإسلامية، وأريد لها أن تكون دولة يهودية خالصة، وتعمل دولة الاحتلال الصهيوني على تأمين وجودها المستقبلي بدعم غربي، وهي في الأساس مشروع غربي بامتياز، فهي وكيل عن الغرب في المنطقة، ترعى المصالح الغربية، وتحافظ على هيمنة الغرب على الإقليم العربي والإسلامي، وتأمين بقاء دولة الاحتلال الصهيوني، يتطلب العديد من الشروط التي تمنع الدول العربية والإسلامية من مقاومة هذا الوجود؛ وأهم تلك الشروط يتمثل في بقاء المنطقة العربية والإسلامية مفككة؛ لأن اتحادها يمكِّنها من مقاومة الوجود الاستعماري الاستيطاني، واتحاد الدول العربية والإسلامية، لا يمكنها فقط من مواجهة العدو الصهيوني، بل يمثل أيضًا تهديدًا مباشرًا للهيمنة الغربية على المنطقة، فلا يمكن تأمين هيمنة الغرب على المنطقة في وجود اتحاد إسلامي، يضم الدول العربية والإسلامية في وحدة سياسية واحدة.
فوحدة الدول العربية والإسلامية تحقق لها القوة البشرية والطبيعية والجغرافية، والتي تمكنها من النهوض والاستقلال عن الغرب؛ لذا يصبح منع وحدة الدول الإسلامية مطلوبًا لتأمين بقاء دولة الاحتلال الصهيوني، وأيضًا مطلوب لحفظ الهيمنة الغربية على المنطقة، فالغرض الرئيسي لدولة الاحتلال الصهيوني، هو الحفاظ على المنطقة العربية والإسلامية مفككة، حتى تصبح مهيمنة عليها لصالح الدول الغربية النافذة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
ولبقاء المنطقة العربية والإسلامية مفككة، ولتأمين بقاء دولة الاحتلال الصهيوني، يلزم بناء نموذج للدولة في الدول العربية والإسلامية، يمنع وحدة الأمة، ويؤمن بقاء الاحتلال الصهيوني، ويمنع توحد الدول العربية في مواجهة الاحتلال الصهيوني؛ فالأمر لا يتعلق فقط بنوعية الطبقة الحاكمة في الدول العربية، بل يتعلق أيضًا بطبيعة الدولة نفسها، فكلما كانت الدول القائمة في البلاد العربية والإسلامية غير مؤهلة لمواجهة العدوان الصهيوني، تحقق الأمن لدولة الاحتلال الصهيوني، وتمت حماية بقائها في المنطقة، ونموذج الدولة الذي يحقق الحماية لدولة الاحتلال الصهيوني، هو نموذج الدولة القومية العلمانية القطرية، فهي التي تمثل الحاضن المؤسسي الحامي لمشروع الدولة اليهودية المحتلة في المنطقة.
وتلك هي المشكلة الرئيسية الخاصة بطبيعة الدولة القائمة في المنطقة، فهي ليست مجرد خيار سياسي، بل هي النموذج الحامي لبقاء الاحتلال الصهيوني، وعليه يصبح تغيير طبيعة الدولة القائمة، طبقًا لجدول أعمال الحركة الإسلامية، هو التهديد الأهم للمشروع الاستعماري الصهيوني الغربي.
فالمواجهة بين الأمة الإسلامية والعدو الصهيوني، لا تدور فقط في ساحة الجهاد المسلح، بل تدور أيضًا داخل الأنظمة السياسية القائمة في البلاد العربية والإسلامية، فالحفاظ على نموذج سياسي حاكم في البلاد العربية والإسلامية، يمثل المعركة الأهم بالنسبة للعدو الصهيوني؛ لأنه يحفظ لدولة الاحتلال الصهيوني قدرتها على البقاء، وقدرتها على الهيمنة على الدول العربية والإسلامية، فمن خلال تعميم النموذج القومي العلماني القطري، تتمكن دولة الاحتلال الصهيوني من فرض هيمنتها على المنطقة، ومن المحافظة على الهيمنة الغربية على المنطقة أيضًا، وبهذا يصبح النظام السياسي ساحة مهمة للمواجهة مع العدو الصهيوني.
والحركة الإسلامية والتي تحمل مشروعًا لدولة حضارية إسلامية عابرة للقومية، تقوم في الواقع بتغيير الأسس التي أمنت بقاء الاحتلال الصهيوني، وتهدد بقاء دولة الاحتلال، كما تهدد بالتالي بقاء الهيمنة الغربية على المنطقة.
لذا تدور المعركة حول طبيعة الدولة، بين نخب حاكمة وقوى غربية واحتلال صهيوني، يحاولون الحفاظ على نموذج الدولة القومية العلمانية القطرية، وبين حركات إسلامية، تحاول تغيير هوية الدولة القائمة، لتجعلها دولة تستند للمرجعية الإسلامية، فتصبح دولة حضارية عابرة للقومية، وعابرة للقطرية، ورافضة للعلمانية.
القومية تحمي الاحتلال القومي
قام المشروع الصهيوني على أسس قومية عنصرية بالأساس، فهو مشروع لبناء دولة للقومية اليهودية، ولتصبح دولة خالصة لليهود، صحيح أن اليهود لا يمثلون قومية واحدة، ولكن الأسطورة قامت بصناعة قومية لليهود، واعتبرتهم شعبًا واحدًا، ثم عملت على بناء دولة واحدة خالصة لهم. وتلك الدولة- أي دولة الاحتلال الصهيوني- هي دولة قومية عنصرية، ولا يمكن حماية الدولة القومية الاستعمارية إلا بنشر النزعة القومية في المحيط العربي والإسلامي، حتى تصبح كل الدول المحيطة بها دولاً قومية، تقوم وتستند إلى قومية محددة، فيصبح لكل دولة شعب تحميه، دون أن تتجاوز ذلك للمحيط الخارجي.
فالدولة القومية معنية أساسًا بحماية قومية محددة، وحماية حدودها المعترف بها دوليًّا؛ لذا يصبح دور الدولة خارج حدودها مقتصرًا على حماية تلك الحدود، وليس على حماية الشعوب الأخرى المجاورة لها. فإذا ظهر تهديد للدولة من خارج حدودها، يكون عليها حماية تلك الحدود، وإذا قام جيش الاحتلال الصهيوني بتهديد حدود مصر، يكون على الدولة المصرية حماية حدودها، وإذا لم يهدد حدود مصر، تصبح الدولة المصرية في حل من مواجهة العدو الصهيوني، وإذا رأت الدولة المصرية أن حدودها يهددها الشعب الفلسطيني أو طائفة منه، يصبح واجب الدولة المصرية هو حماية حدودها من الشعب الفلسطيني، وليس من دولة الاحتلال الصهيوني.
فالقومية تجعل الدولة معنية بحدودها وشعبها، وتقيم علاقتها مع دول الجوار على أساس مصالحها القومية الخاصة بها، وليس بسبب أي التزام تاريخي أو حضاري تجاه الدول العربية؛ لذا لم تكن القومية العربية مناسبة لحماية أمن دولة الاحتلال الصهيوني؛ لأن القومية توحد العرب، وبالتالي توحد المحيط العربي حول دولة الاحتلال الصهيوني وفك روابط العروبة بالإسلام، ليس كافيًا؛ لأنه يبني قومية عربية واسعة، تمثل الدول العربية، وتحيط بدولة الاحتلال الصهيوني من كل جانب، كما أن القومية العربية تجعل أرض فلسطين أرضًا عربية، وبالتالي تصبح ملكًا لكل العرب، ويصبح الخلاف حول أرض فلسطين يخص كل العرب، وليس الشعب الفلسطيني فقط.
لهذا لم تكن القومية العربية مناسبة لحماية الاحتلال الصهيوني، بل كان من الضروري الخروج من القومية العربية، إلى القومية القطرية الضيقة، وعندما تتفكك العروبة إلى قوميات منفصلة، تصبح كل دولة ممثلة لقومية مستقلة، ومعنية بحماية حدودها الخاصة، وليس عليها التزام تجاه دول العروبة.
القطرية ضرورة
هنا تظهر أهمية القطرية كأساس لتكوين الدولة وتحديد هويتها، فما دامت كل دولة من دول الأمة العربية والإسلامية، تمثل قطرًا بعينه فقط، وتربط القطر بالقومية الغالبة فيه؛ لذا تصبح كل دولة معينة بالمصالح القطرية، والتي تنفصل بالكامل عن المصالح ذات الأساس التاريخي والحضاري. وهنا تتشكل مسئوليات الدولة القطرية في حدود قطرها؛ ما يمكنها من التصالح مع العدو، تحت زعم تحقيقها لمصالح القطر، وتم تأسيس معاهدات الصلح مع العدو الصهيوني، على أساس أنها تحقق المصالح القطرية.
والقطرية تعني أن مصالح الدولة تتوقف عند حدودها الخارجية، وتتعلق بشعبها فقط؛ ما يؤدي ضمنًا إلى تجاهل كل الروابط التاريخية واللغوية والدينية والحضارية، ويتم بناء هوية جديدة للشعب، داخل إطار قومية قطرية، وتتم صناعة طبيعة خاصة لهذا الشعب القطري القومي، كما يتم تحديد مصالح خاصة به، هي في الغالب مصالح وقتية ومادية ونفعية، أي أنها منافع مزعومة، تربط الشعب بحاجاته المادية، وتفصله عن حاجاته الروحية والمعنوية والحضارية، وبالطبع لا تتحقق تلك المنافع المادية في النهاية، لأن تأمين الاحتلال الصهيوني يتطلب بقاء الدول العربية، خاصة المحيطة به، في حالة تبعية سياسية واقتصادية للغرب؛ ما يعني أن تقدم الشعوب ولو على المستوى المادي فقط، يمثل تهديدًا لبقاء الاحتلال الصهيوني؛ لذا يصبح بقاء الدولة في إطار القومية القطرية، وبقاؤها كدولة تابعة اقتصاديًّا وسياسيًّا، وبقاؤها كدولة متخلفة، كل ذلك يمثل جزءًا أساسيًّا من عملية تأمين بقاء الاحتلال الصهيوني في المنطقة، وبقاء الهيمنة الغربية أيضًا.
والعلمانية هي المخرج
ولكن كيف يمكن فك روابط الانتماء الإسلامي، وفك روابط العروبة، وتفكيك الهوية الحضارية للشعوب العربية والإسلامية؟ لا يمكن تفكيك وعي الأمة وهويتها إلا بالعلمانية، فالعلمانية نقيض للفكرة الإسلامية؛ لأنها تقوم على تحييد دور الدين في المجال العام والنظام العام على الأقل، وقد تتمادى العلمانية أكثر وتعادي الدين، ولكن في كل الحالات تقوم العلمانية على بناء دولة محايدة دينية، أي دولة لا دين لها، ولا مرجعية دينية لها، ولا تستند إلى الشرعية الدينية، ولا تلتزم بتعاليم الدين، ولا ترتبط بشرعية الدين، فهي دولة لا دينية في حقيقة الأمر، وتلك الدولة العلمانية التي تفك كل رابط لها بالدين، تغير هوية الشعوب، وتجعل الهوية العليا هي القومية، وتفك أي رابط بين الهوية القومية والدين، وربما تلجأ الدولة العلمانية في المنطقة العربية والإسلامية إلى توظيف الدين أو استخدامه، وهي بهذا تجعل الدولة أعلى من الدين، والدين بالنسبة لها أداة تستخدمها فهو أقل منها شأنًا، وعندما تكون الدولة هي الإله، الذي يخضع الدين له، حتى يسيطر عليه، تصبح بذلك دولة نافية للمرجعية الدينية، ونافية لقداسة الدين، ففي النموذج العلماني تصبح قداسة الدين شأنًا فرديًّا، في أحسن الأحوال، فمن يرى في الدين قداسة فهذا أمر يخصه، ولكنه لا يخص النظام العام، ولا يخص الدولة، فلا قداسة للدين في النموذج العلماني بكل صوره، سواء المعتدلة أو المتطرفة، الجزئية أو الشاملة.
وتقوم العلمانية بعملية تصنيع جديد للهوية، فهي تفك روابط الدين أولاً، حتى تنهي الانتماء الإسلامي للأمة، ثم بعده تفك روابط العروبة، حتى تفكك الانتماء العربي، فبعد تفكيك الانتماء الحضاري الإسلامي، تضعف العروبة بوصفها حاملة للانتماء الإسلامي، ويتضاءل تأثيرها المعنوي على الشعوب، وبعد ذلك تؤسس العلمانية للهوية القومية القطرية، وفي العلمانية لا توجد أي هوية غير الهوية القومية القطرية؛ فالعلمانية هي المبدأ الوضعي القائل بمرجعية العقل البشري، وبأنه مصدر الحقيقة والمصلحة؛ لذا فالنظام العلماني يقوم على مرجعية العقل البشري، وما دام الشعب وبالتالي الدولة سوف تستند لمرجعية العقل البشري لشعب ما، فإن هويتها سوف ترتبط بهوية الشعب الواقع داخل حدودها فقط، ومن هنا تتأكد النزعة القومية القطرية. وتصبح العلمانية حامية للقومية القطرية من جانب، ومانعة لعودة الهوية العربية الإسلامية للمجال العام والنظام العام، من جانب آخر.
تفكيك القطرية
ولكن النزعة القومية التي غرسها الاستعمار الغربي، ويحميها الاحتلال الصهيوني، لم تكن كافية في الكثير من الأحيان؛ حيث ظهر أن الأمة الإسلامية لها هويتها التي تتمسك بها الشعوب، وأن تلك الهوية قادرة على إعادة إحياء نفسها؛ لأنها لم تمت في وعي الأمة، لذا أصبح من الضروري إغراق المنطقة في الصراعات الداخلية، وتفجير الخلافات داخل الوطن الواحد، والدولة القومية القطرية التي تم زرعها في المنطقة لم تتمكن من توحيد وطنها، لأنها مثلت حالة تفكيك للهوية الجامعة الإسلامية؛ لذ أصبحت تمثل عاملاً يؤدي إلى فتح الباب أمام المزيد من تفكيك الهوية الجامعة، حتى على المستوى القومي القطري، وفي الوقت نفسه، استغل الغرب، ومعه دولة الاحتلال الصهيوني، تلك الحالة لمزيد من تفكيك البناءات القومية القطرية، حتى تتحول إلى بناءات أصغر فأصغر. واستمرت حالة تفكيك الدولة القومية القطرية، بعد تفكيك الهوية العربية والهوية الإسلامية الجامعة. وتأكد أن التفكيك المتتالي يحمي دولة الاحتلال الصهيوني، ويحمي الهيمنة الغربية؛ لأنه يعيق أي عودة محتملة إلى الهوية الإسلامية الجامعة.
والحركة الإسلامية تواجه
مثلت الحركة الإسلامية إذن تهديدًا لكل هذا المخطط، فهي تهديد مباشر لدولة الاحتلال الصهيوني ومشروعها، وتهديد مباشر للدول الغربية الراعية لمشروع تفكيك الأمة، والراعية لدولة الاحتلال الصهيوني، كما أنها تهديد مباشر لمشروع الهيمنة الغربية السياسية والاقتصادية والحضارية على المنطقة، كما مثلت الحركة الإسلامية تهديدًا مباشرًا للنخب المتحالفة مع الغرب والعدو الصهيوني، والتي تسيطر على الدولة القومية العلمانية القطرية القائمة؛ لذا أصبحت الحركة الإسلامية في مواجهة تلك المشاريع، وفي مواجهة الدولة القومية العلمانية القطرية، ليس بوصفها دولة، ولكن بسبب هويتها المختلفة عن هوية الأمة، والتي فرضت على الأمة، ومن هنا ظهر التضاد بين هوية الدولة القائمة والحركات الإسلامية، وظهر التعارض بين المشاريع الغربية والحركة الإسلامية، فأصبحت ساحة المواجهة مفتوحة؛ لأنها مواجهة مصيرية، تحدد مصير الأمة وتحدد أيضًا مصير المشاريع الغربية في المنطقة.
وسوف تظل الدولة ساحة للمواجهة، بين قوى تحاول اختطاف الدولة داخل الهوية القومية العلمانية القطرية، والتبعية الغربية، والتحالف مع العدو الصهيوني، وبين قوى أخرى تحاول تحرير الدولة واستعادتها إلى المجتمع وهويته، حتى تصبح هوية الدولة مستمدة من هوية المجتمع.
فمعركة تحرير فلسطين لا تدور فقط على أرض فلسطين، ولا تدور فقط حول الأرض المحتلة، ولكنها تدور أيضًا حول تحرير الدولة من الهوية الاستعمارية التي فرضت عليها، ومن القوى الغربية التي سيطرت عليها، ومن هيمنة القوى الصهيونية عليها، وتحرير الدولة، جزء مهم من عملية تحرير الأمة، وخطوة لازمة لتحرير أرض فلسطين العربية الإسلامية، فتحرير الدولة من القومية والعلمانية والقطرية شرط من شروط تحرير فلسطين، وبقاء الدولة القومية العلمانية القطرية، شرط من شروط بقاء الاحتلال الصهيوني.
0 التعليقات:
إرسال تعليق